((وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ))، أي قسماً بالسماء التي هي صاحبة البروج، جمع برج وهو القطعة من السماء، سميت برجاً لظهوره من برج إذا ظهر، والبروج هي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، والقمر في سيره النفسي يقطع كل برج في ظرف يومين ونصف، والشمس تقطعه في ظرف شهر.
((وَ)) قسماً بـ((الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ)) وهو يوم القيامة الذي وعد به الخلق.
((وَ)) قسماً بـ(( شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)) في ذلك اليوم، أو كل شاهد ومشهود، وهذا هو الأقرب بالعموم وإن أورد في التفسير معاني مختلفة لهما.
((قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)) هو الشق العظيم في الأرض، أي قتل الله أصحاب الأخدود الكفار الذين حفروا الأخاديد في الأرض لتعذيب المؤمنينـ وهذا دعاء على أولئك الكفار، وكان من قصتهم على ما نقله القمي: "إن الذي هيج الحبشة على غزو اليمن ذو نواس، وهو آخر من ملك من حمير، تهوّد واجتمعت معه حمير على اليهودية، وسمى نفسه يوسف، وأقام على ذلك حيناً من الدهر، ثم أخبر أن بنجران بقايا قوم على دين النصرانية، وكانوا على دين عيسى وعلى حكم الإنجيل، ورأس ذلك الدين عبد الله برياس، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها، فسار حتى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية، ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم وعرض عليهم، وحرص الحرص كله، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها واختاروا القتل، فاتخذ لهم أخدوداً وجمع فيه من الحطب وأشعل فيه النار، فمنهم من أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف، مثّل بهم كل مثلة، فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار عشرين ألفاً، وأفلَتَ رجلاً منهم يدعى 'دوس'".
((النَّارِ)) بدل عن أخدود، أي أصحاب النار ((ذَاتِ الْوَقُودِ)) الكثيرة، إشارة إلى عظم تلك النار، والوقود هو الحطب الذي توقد به النار.
((إِذْ هُمْ))، أي أولئك الأصحاب الكفار ((عَلَيْهَا))، أي على حوالي النار ((قُعُودٌ)) جمع قاعد، أي كان الكفار قاعدين أطراف النار يشاهدون ما يفعل بالمؤمنين من رميهم فيها.
((وَهُمْ)) الملك الكافر وأصحابه ((عَلَى مَا يَفْعَلُونَ)) جلاوزتهم ((بِالْمُؤْمِنِينَ)) من إلقائهم في النار ((شُهُودٌ)) جمع شاهد، أي حاضرون مشاهدون، وهذا ذم لهم كيف رضوا وسمحت لهم أنفسهم بأن يشاهدوا هذا النحو من التعذيب البشع.
((وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ))، أي ما كره الملك وأصحابه من المؤمنين ((إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ)) ويتركوا دين الملك الباطل، ((الْعَزِيزِ)) الغالب في سلطانه ((الْحَمِيدِ)) المجرد في أفعاله، إشارة إلى أن الغلب كان للمؤمنين، وإن صَالَ الملك وجَالَ أياماً، كما أن ما فعل بالمؤمنين كان لحكمة وصلاح لهم لعلو درجاتهم.
((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) فهو المالك المطلق لهما، ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، أي حاضر عالم، فلم يغب عنه ما فعلوا بالمؤمنين فسينتقم منهم.
((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))، أي عذبوهم وأحرقوهم بنار الأخدود من أصحاب ذلك الملك الطاغي ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)) بعد ذلك بالإيمان والطاعة ((فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ)) في الآخرة بكفرهم، ((وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)) بما أحرقوا المؤمنين، وكان المراد بعذاب جهنم سائر أنواع عذابها من لدغ السامات وأكل الزقوم وشرب غسلين وما أشبه، و"حريق" اسم النار، ولذا أضيف إليه عذاب.
وفي مقابل أولئك المؤمنون ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)) بالله ورسوله واليوم الآخر ((وَعَمِلُوا)) الأعمال ((الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ))، أي بساتين، وسميت جنة لتستُّر أرضها بالأشجار والقصور، ((تَجْرِي مِن تَحْتِهَا))، أي من تحت قصورها وأشجارها ((الْأَنْهَارُ)) من عسل ولبن وخمر وماء وغيرها، ((ذَلِكَ)) التنعم بتلك الجنات ((الْفَوْزُ)) والفلاح ((الْكَبِيرُ)) الذي ليس فوقه فوز، ولعل المراد بأن الذين فتنوا وإن الذين آمنوا مطلق الكفار والمؤمنين، لا خصوص الكافر والمؤمن من أصحاب الأخدود أو أصحاب الرسول ومعاصريه.
((إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ)) يا رسول الله، أي أخذه للكافرين وانتقامه منهم ((لَشَدِيدٌ))، فإنه إذا بطش بأحد يغشاه العذاب بمختلف ألوانه وصنوفه، فليحذر الكفار والعصاة بطشه.